Friday, September 17, 2010

تحالف الأعداء والشيطنة المتبادلة


تحالف الأعداء والشيطنة المتبادلة

بقلم: فضيل الأمين
نشر في صحيفة الشرق الأوسط


عجيب أمر الأعداء الايديولوجيين فبقدر شدة العداوة بينهم هم أقرب الناس لبعضهم البعض. حقدهم وبغضهم وكراهيتهم تتغذى من حبل سري واحد يربطهم ويغذي جذوة كينونة وجودهم فهم الأضداد الذين يصنعون بعضهم.
دعيت قبل أيام قليلة للمشاركة في برنامج تلفزيوني حول قصة "أزمة المسجد" الذي يزمع المسلمون بناءه قريبا من موقع هجمات 11 سبتمبر في مدينة نيويورك، ولكي أبدي رأيي في الحملة التي تشنها المجموعات المحافظة والمتطرفة على مشروع المسجد باعتبار أن أرض موقع الهجوم الإرهابي أرض تحظى باحترام خاص وليس من اللائق أن يشيد المسلمون الذين ينتمون لنفس ديانة الإرهابيين مسجداً في منطقة هاجمها ودمرها اخوانهم في الديانة وقتلوا فيها 3000 ضحية.
ويمكن للمرء أن يدخل في دوامة الجدل حول تعريف المبنى وهل هو مسجد أو مركز اسلامي؟
وهل هو قريب جداً من الموقع أم لا؟
وهل من حق المسلمين دستورياً أن يمارسوا حقهم في البناء حيث يشاؤون؟
وهل يجب أن يراعوا شعور عائلات الضحايا وينقلوا المبنى إلى نقطة ابعد؟
وما هي المسافة التي يمكن ان تكون مقبولة للمعارضين، شارعان آخران أم أربعة أم ستة أم خارج منطقة مانهاتن؟
وهل المعارضة هي معارضة لقرب المبنى، أم للمبنى أم لديانة من يريدون بناء المبنى، أم رفض لمعتنقي الإسلام، أي المسلمين الأميركيين، وأن الاعتراض على المبنى ليس سوى عذر أو حجة ليس إلا؟
هذه كلها أسئلة تستحق النقاش، إلا أن الموضوع من وجهة نظري هو اعمق من مسجد او قطعة أرض أو مراعاة لشعور ضحايا كان من بينهم ما لا يقل عن 100 مسلم على الأقل بل أن بعض الاحصاءات تشير إلى 300 مسلم لقوا حتفهم في ذلك الهجوم الإرهابي الجبان.
محور الأمر من وجهة نظري هي اتفاق الخصوم على العداوة واستخدام كل الوسائل والأساليب من أجل تجذيرها وتأطيرها واعتماد مبدأ الشيطنة المتبادلة لتأجيج نارها.
فمواقف الظلاميين الأميركيين الذين يرفضون الآخر خاصة إذا كان الآخر هو الإسلام والمسلمون تجد لها صدى قوياً وترحيباً كبيراً لدى الظلاميين المسلمين، كما تجد مواقف الظلاميين المسلمين الذين يرفضون الآخر (الغربي) خاصة إذا كان مسيحياً أو يهودياً صدى وترحيباً قوياً لدى ظلاميي الغرب في نفس الوقت.
وتتحول التصريحات والمواقف المعادية للمسلمين إلى سلاح يتكئ عليه ظلاميو المسلمين كما تتحول تصريحات وتهديدات متطرفي المسلمين إلى سلاح يشهره اعداؤهم ويثبتوا من خلاله تجذر العداء تجاههم.
وبطريقة أو أخرى يصنع كل من الطرفين الآخر.
فالقوى الظلامية في الغرب وفي العالم الإسلامي بقدر ما تصرّح بكراهيتها وعداوتها للأخرى تكتسب شرعيتها ووجودها منها. فكلاهما مصدر حياة الأخرى.
والشيطنة المتبادلة هي "الحبل السري" الذي يغذي كلاً منهما.
فالتطرّف يغذي التطرّف المضاد.
وهكذا يتحالف الأعداء عن بعد وتصبح صيرورة وجود كل منهما مرتبطة بوجود الآخر، ويتحوّل العالم إلى رهينة لتحالف الأعداء إلى أن يرفضهم ويلفظهم وينتزع زمام المبادرة من أيديهم. فلنقل لا للظلامية ولا للتطرف من أي جهة جاء وبأي رسالة أتى. وهل نستفيق لهذه اللعبة القذرة التي تعصف بمستقبلنا؟

Thursday, September 16, 2010

ماذا يريد الليبيون؟

ماذا يريد الليبيون؟ 


فضيل الأمين

يثور الجدل هذه الأيام حول التغييرات المترقبة في هيكلية النظام الليبي وماذا إذا كان لهذه التحولات أي أثر على مستقبل البلاد وشعبها.

هذه التغييرات من المتوقع ألا تشمل فقط قمة هرم السلطة حيث تسلّم سيف الاسلام القذافي لأول مرة منصباً حكومياً محدداً يعتبر الأعلى على الاطلاق في هرمية النظام الليبي شديد التغيير، في اشارة واضحة إلى تبلور نوعي للشكل الجديد للنظام في المرحلة القادمة، بل وستمتد  لتشمل عودة التشكيلات الإدارية الحكومية التقليدية التي تم تغييبها لسنوات طويلة الأمر الذي اربك حركة المجتمع والدولة في آن واحد.

وبدون الدخول في حديث مطوّل عن مدى جدية هذه التغيرات أو ديمومتها، يمكننا القول أنها جاءت في مرحلة كان لابد فيها لقادة النظام من احداث تغيرات بنيوية ونوعية فيه، واعادة هيكلته بما يضمن استمراره وتأقلمه وبل وتطوره لكي يستجيب للمتطلبات الراهنة والمستقبلية الخارجية والداخلية. فالهيكلية دائمة التغيّر المتعمّد التي يصعب عبرها تحديد المسؤوليات التي كانت سمة المراحل الماضية والتي كانت مرتعاً لتشابك وتداخل بل وتضارب القرارات والمصالح اثبتت أضررها الفادح على البلاد والمجتمع، ووصلت إلى مرحلة لا مفر من تجاوزها وتجاوز افرازتها المختلفة في عالم لابد فيه من التعامل والتفاعل العملي المقنن مع الحقائق الجديدة والمستجدات التي تطرأ محلياً وعالمياً.

من التكتيك المؤقت إلى الاستراتيجية

إن البدء بعملية تحويل للنظام اللبيبي من النظام الهلامي "دائم التحول والتغيّر" الفوضوي في ممارساته (Statelessness) في هياكله وممارساته ومسؤولياته إلى نظام سياسي تقليدي سيكون في حقيقته أقرب ما يكون إلى النظام الشمولي التقليدي الذي يتسم بالثبات والواضح المعالم والهياكل الذي تتضح فيه ابجديات القيادة والتحكم Command and Control والمسؤوليات، وسيكون عبرها اقدر على ادارة البلاد وتحديد صلاحيات ومسؤوليات الحاكمين ومن تحديد للسياسات والخطط، ويمكن من خلاله الإدارة الأكثر فاعلية وتحديد سقف الآمال والتوقعات، كل ذلك أمر اعتبره خطوة على الطريق الصحيح فقط في الحالة الليبية المتفردة في هياكلها وسياساتها دائمة التقلّب.

الهلامية وتغييب القدرة على التنبؤ بسلوكياته وردود افعال أي نظام أمر يجعله يعيش بسياسات المفاجأت والسياسات والسلوكيات غير المتوقعة Unpredictable مما يخلق حالة دائمة من الشلل والفشل المتراكم والترقّب القاتل. هذا السلوك يمكن أن يحمل في طياته فوائد محدودة كتكتيك ولكنه يتعارض مع أي رؤية استراتيجية جادة محلية أو دولية.

 فالقرارات المتضاربة التي تخلقها هذه الظاهرة يكون نتاجها تنمية فاشلة وترافقها حالة من الترقب السلبي الذي من أبرز مظاهره محلياً أن يستغرق بناء مستشفى متوسط الحجم بطاقة 1400 سرير 37 عاماً، وتتكدس المشاريع الانمائية غير المكتملة بعد أن تتقاضى القطط السمان قيمة تنفيذها أكثر من مرة.

وتنكمش البنية التحتية التي ورثها النظام الحالي عام 1969 التي تم تطويرها في أوائل الستينات لخدمة 1.5 مليون من السكان، لتصبح مع مرور الزمن بنية شديدة التآكل تئن تحت وطأة حاجات 6 مليون نسمة في عام 2009، وتتحول عملية النمو العشوائية في غياب الخطط الانمائية الممنهجة التي تشرف عليها أجهزة مستقرة وفاعلة إلى كوابيس عملية ترافقها سياسات وقرارات ارتجالية، مثل (اهدم سوق الثلاثاء، لا تهدم سوق الثلاثاء، إلى أين يتم نقل تجار سوق الثلاثاء ومتى؟)...

هل يعني هذا أن النظام الشمولي التقليدي المتوقع بروزه قريبا في ليبيا هو النظام المأمول والأفضل للبلاد؟

بالطبع لا.. فمن وجهة نظري الشخصية اعتقد أن النظام الديموقراطي الليبيرالي هو ما آمل أن تصله ليبيا يوماً ما.

ولكن السؤال هو: هل ليبيا نظاماً وشعباً جاهزين لهذا النموذج بعد أكثر من 35 عاماً على غياب أهم وابسط مقومات الدولة التقليدية الحديثة؟

ليبيا كما وصفها ديرك فانداويل في كتابه A History of Modern Libya الذي صدر عام 2006: "تعاني من تأثير تاريخ طويل من "انعدام الدولة Statelessness" الأمر الذي ترك البلاد بمؤسسات ضعيفة وأدى إلى حالة (تغييب سياسي)De-politicization للمواطنين وقلّص الحياة الاقتصادية وجعلها تُختزل في اقتصاد توزيعي (غير منتج) ليس إلا.. وخلق في نفس الوقت مجموعات اجتماعية وثقافية وسياسية وأيدولوجية متجذرة تحتفظ بمكتسبات مختلفة ومصالح متشابكة يصعب تغييرها".

إلا أن إعادة بناء الدولة ومؤسساتها التقليدية وإعادة تشكيل العقد الاجتماعي الحالي المتجذر أو اصلاحه عبر بوابة العنف أمر مرفوض مبدياً، كما أن سياسة الصدمة السريعة المباشرة Shock Therapy أمر اثبت فشلة أو قلة جدواه في مجتمعات عديدة أيضاً.

وتبقى استراتيجية اعادة تشكيل مفردات العقد الاجتماعي الحالي المتأزم والتغلب على اعتراضاته أمر لابد من "مرحلته" أي التعامل معه عبر مراحل، أي تمريره عبر مراحل يتم خلالها تحلّل وذوبان هذه المجموعات التي ذكرها فانداويل، في النسيج والتربة الجديدة.

 فالمجموعات الاجتماعية والثقافية والايدولوجية المتجذرة هي أقرب ما تكون إلى المكونات العضوية التي لا سبيل إلى التخلض منها إلا عبر عمليات التحلل التدريجي في مكونات اكبر واكثر استيعاباً وليس بالنسف والتدمير وهذا ينطبق على الطحالب والطفيليات التي تمت تمعشت على الوطن والمواطن طيلة العقود الماضية.

خلال السنوات الخمس الماضية انهت ليبيا على الصعيد الخارجي سلسلة مغامراتها الخارجية عبر التخلي عن المرحلة الراديكالية ومحركها الايديولوجي الثوري مما أدى إلى إنهاء عزلتها وعودتها إلى الأسرة الدولية. واليوم تتحرك داخلياً لتدفن تلك المرحلة محلياً أيضاً.

هل يعني هذا أن ليبيا اليوم على أبواب العصر الديموقراطي الجيفرسوني؟

كلا... فليبيا من نهاية نقطتها (الراديكالية الثورية الفوضوية) لا يمكن أن تصل إلى غايتها (الديموقراطية التمثيلية) التي يحلم بها اغلب الشعب الليبي. الأمر الذي يستدعي "التمرحل" الذي اشرت إليه.

هل تحول ليبيا من نظام أقرب إلى الفوضوي في هياكله وسياساته المنظم إلى دولة شمولية تقليدية على شاكلة دول الخليج أو سوريا أو مصر أو تونس يعتبر أو يشكّل انتكاسة لتطورها السياسي؟ 

كلا... فليبيا عاشت خلال 35 عاماً الماضية مرحلة ما يمكن تسميته "مرحلة حقل التجارب" وهي مرحلة ما قبل الدولة الشمولية التقليدية التي عادة ما توفر: الاستقرار والأمن والإنتماء وفسحة من الحرية الشخصية وقدر معقول وإن يكن محدود من الخدمات التي يحتاجها المواطن والتي هي من مهمات الدولة. كما توفر فسحة من "التوقعية" Predictability وهي أمر مهم جداً في خلق نوع من الاستقرار السياسي والإقتصادي والإجتماعي وبلورة بيئة تمكّن من التفاعل البناء داخليا وخارجيا.

وماذا يريد المواطن العادي سوى هذه المتطلبات الاساسية في خارطة "موزلو" التي حدد عبرها الاحتياجات الأساسية أو الضروية الأولى مثل الأمن والاستقرار والمأكل والملبس والإنتماء، ثم الاحتياجات العليا بعد ذلك مثل المشاركة السياسية.

اعادة بعث روح الإنتماء والولاء والملكية

ويجب أن تعرّج هنا على مركزية قضية الإنتماء وهي من أهم المشاكل التي يعانيها المواطن الليبي اليوم، فسنوات الاغتراب السياسي والإجتماعي والتغييب الممنهج من قبل عدد من الاجهزة المتنفذة التي اعلنت ملكيتها دون غيرها للوطن جعلت المواطن الليبي غريبا في بلاده وحرمته من انتمائه الحقيقي للبلاد الذي تبرز مظاهره عادة في الحرص على خيراتها وثرواتها ومدنها وقراها ونظافتها وحماية بيئتها والدفاع عنها وعن سمعتها في العالم، واصبح المواطن يعيش في ليبيا كأنه يعيش في غرفة فندق مؤجرة، لا يهمه من امرها شيئاً بل قد يتركها عند رحيله عنها في أسوأ حال، وقد يسعى لسرقة المناشف والشراشف والصابون والشامبو وما يمكن أن تقع عليه يداه، ولسان حاله يردد "أنا ومن بعدي الطوفان".

ما يسميه علماء الاجتماع الشعور بالملكية Sense of Ownership أمر هام جداً في بناء الولاء والانتماء والملكية للوطن، وهو أكبر من الولاء القبلي أو الجهوي، وهو بداية الطريق نحو بناء المستقبل، فمن يملك شيئاً وينتمى إليه سيحافظ عليه ويدرأ عنه المفاسد والمخاطر ويدافع عنه ويعمل على تنميته وتطويره والاستثمار فيه.



فرصة ولكن...

إن ليبيا اليوم في رأيي تمر في مرحلة كيف تُحكم وليس من يحكم. فأغلب الشعب الليبي من وجهة نظري، وقد استمعت إلى عينات لا بأس بها مؤخراً، لا يهمها من يجلس على كرسي الحكم كما لا يهمها كثيراً تسمية النظام الحاكم، ما يهمها هو انهاء حالة الفوضى والفساد والهلامية واللامسؤولية، إنهاء سياسة تغييب هياكل الدولة ومرافقها الحيوية، ما يهمها هو خلق المرافق الضرورية والخدمات الأساسية التي على أساسها تم تشكيل الحكومات والتسليم لها بحق الحكم، خدمات المواصلات والنقل والطرق، خدمات الصرف الصحي وتوفير المياه الصالحة للشرب، خدمات حماية الملكية الفردية وخدمات توفير الأمن والأمان للمواطن.

بناء وتطوير مؤسسات التعليم الأساسية والعليا، خدمات الصحة والمرافق الصحية والطبية، تفعيل القوانين الأساسية التي تحكم بين المواطنين فيما بينهم وفيما بينهم وبين الدولة واجهزتها. كيف توفّر الدولة للمواطن اساسيات الحياة الكريمة هو ما يريده المواطن الليبي.

كيف تُحكم ليبيا عبر معالجة هذه القضايا هو ما يهم المواطن الليبي، أما من الحاكم وما هو اسمه وماهي صفته الادارية فهو أمر يعتبر في ليبيا اليوم من نافلة القول والرفاهية الزائدة. المطلوب هو توفير الحد الادنى ثم ترك المواطن الليبي للحركة والعمل والابداع والعمل الحر، وكما يقول المثل الغربي "بدل أن تطعمه سمكة علّمه كيف يصطاد" ويعتمد على نفسه ويخلق الفرص له ولغيره.

الحالة الليبية توفر فرضة ثمينة للتأثير والمساهمة في تشكيل المستقبل، فالتعامل مع نظام شمولي جديد وليد في طور النمو يمكن التأثير فيه وتشكيله أمر يعتبر فرصة وتحدٍ في وقت واحد فليبيا لا تزال في بدايات تشكلها وهي في هذا ستختلف حالتها عن حالة أنظمة شمولية كاملة النمو ومتجذرة وقديمة مثل الانظمة العربية في سوريا ومصر وتونس والسعودية مثلاً التي استقرت انظمتها الشمولية عبر اكثر من 50 عاماً من الاستقرار التقليدي الذي أدى إلى تكلس في هياكلها واجهزتها ونخبها الحاكمة الأمر الذي يجعلها عصية على أي إصلاح أو تطوير ديموقراطي ذي معنى.

ليبيا اليوم تمر بمرحلة انتقالية جديدة، والمراحل الانتقالية تعتبر من أهم المراحل في تاريخ الشعوب والأمم، إذ إنها الفترات التي يتشكل فيها مستقبلها. وهي المراحل التي تتوفر فيها فرص التأثير والتفاعل، فمرحلة التشكل بسيولتها وليونتها تقدم فرص قد لا تتكرر بعدما تتشكل الهياكل وتتجمد وتأخذ اشكالها النهائية.

معرفة المرحلة الراهنة في تاريخ ليبيا والتعاطي الحسن معها من قبل الليبيين جميعاً مواطنين وحاكمين قد يضمن لها انطلاقة نحو آفاق ايجابية ويوفر فرصاً مستقبلية ايجابية لبناء دولة ليبية معاصرة على مستوى القرن الواحد والعشرين، ويجعل من هذه المرحلة الانتقالية قنطرة لدولة ديموقراطية حقيقية. ولنا أن ننظر إلى تجربة كوريا الجنوبية وماليزيا واندونيسيا كدول استطاعت أن تمر عبر نفق الدولة الشمولية إلى فضاءات الدولة والمجمتع الديموقراطيين خلال فترة لم تتجاوز العشرين عاماً.



نقطة الإنطلاق والهدف المنشود

نقطة الإنطلاق والهدف المنشود

فضيل الامين
المنارة
يحكى أن شخصاً طلب من صديق له أن يدله على الطريق الذي يجب أن يسلكه للوصول إلى مكان معين. فكّر صديقه في الأمر ملياً ثم قال له: 'خذ هذا الشارع ثم لف على اليمين واستمر لمسافة كيلومترين .. ثم.. لا لا هذا الطريق لن يوصلك. خذ الشارع الفلاني ثم خذ الطريق السريع الفلاني واخرج على الشارع العلاني ثم لف شمال وتجاوز الاشارة الضوئية الثانية... لا لا هذا الطريق لن يوصلك إلى المكان الذي تريد... خذ الطريق السريع ثم انطلق على الطريق الساحلي وتجاوز قرية... لا لا لا اعتقد ان ذلك سينفع'

صمت الصديق ملياً ثم التفت إلى صديقه وقال: 'إنك لا تستطيع الوصول إلى هناك من هنا'. وأضاف مفسراً: 'يجب أن تغيّر نقطة الانطلاق لكي تصل إلى هدفك المنشود'.

تحضرني هذه القصة كلما تأملت واقعنا الليبي وقرأت عن حجم الرغبة ومقدار الجهد الذي يتم بذله للخروج بالبلاد من واقعها التي تئن تحته. فلا شك ان هناك نية صادقة لدى البعض للارتقاء بالبلاد وحل مشاكلها المتراكمة وأزماتها المزمنة ولكن النوايا الصادقة وحدها لا تكفي كما ان الشعارات البراقة والصراخ العالي لن يجدي.

هناك أمران اساسيان لابد من احسان اخيارهما قبل الشروع في مشاريع الاصلاح والبدء في التحرك نحو الأهداف المرسومة.

أولهما: تحديد نقطة الانطلاق بعد تحديد نقطة الوصول أو نقطة الهدف. ولا بد أن تتوافق نقطة الانطلاق مع نقطة الوصول وإلا ستكون انطلاقة تيه مستمر.

ولا بد أن يتم التأكد أنه يمكن الوصول إلى الهدف من تلك الانطلاقة. أي لابد أن تكون الفرضيات التي تشير إلى جهوزية الجميع وقدرتهم على الوصول إلى الهدف من تلك النقطة وإلا فلا بد من تحديد نقطة انطلاق انتقالية قد لا تكون على خط مستقيم مباشر مع نقطة الهدف إلا انها تخدم كنقطة تحريكية وتوفر جهوزية مفقودة واحدثيات جديدة تتوأم مع الهدف.

الثاني هو أداة الانتقال ووسيلة الوصول، فلا بد ان يتم اختيار الوسيلة الأنسب والأحدث والأقدر التي من شأنها تأمين الانتقال والوصول إلى نقطة الهدف.  والأمثلة على ذلك كثيرة، ودعنا نضرب مثلا قريبا منا، نحن العرب، هل يمكن الهبوط على سطح القمر باستخدام البعير.

من حيث المبدأ، البعير وسيلة تنقل ونقل كما أن المركبة الفضائية أبولو والمكوك الفضائي أيضا وسائل نقل وتنقل. البعير قد ينقلنا من نقطة ما في الكرة الأرضية إلى نقطة اخرى عبر زمن يطول أو يقصر من ساعات إلى سنوات أو عقود من الزمن وعبر مكابدات وتضحيات. إلا أن البعير لا يطير ولن يطير ولا يمكن أن ينقلنا إلى القمر أبداً.

يمكن نقل الانسان والبعير في المكوك إلى القمر ولكن لا يمكن نقل الانسان والمكوك على ظهر البعير إلى القمر.

أقرأ وأتابع وباحترام قرارات وتصريحات أجهزة الحكومة وهي تصارع المشاكل المزمنة التي تعاني منها البلاد، من ازمة مواصلات إلى أزمة الصحة إلى أزمة السكن إلى مشكلة البطالة إلى أزمة غياب الاستثمار والمبادرات الفردية والجماعية إلى أزمة المياه إلى أزمة أمن وجريمة إلى غياب البنية التحيتية.

ولا شك عندي أن هناك جهود صادقة ومخلصة يقوم بها مسؤولون لمواجهة هذا الركام الهائل من الفشل ولكن ما لم تكون نقطة الانطلاق صحيحة والوسائل والادوات صحيحة فلن تكفي النيات ولا الاهداف الجميلة البراقة.

كما نتحدث عن انهيار البنية التحيتة للبلاد بعد اهمال تحديثها عبر سنوات لابد أن نتحدث عن بنية البيروقراطية والادارة الحكومية التحتية التي تعاني من تخلف وتآكل وفساد . ويصاحب ذلك بنية قانونية تحتية متخلفة.

فالقوانين المتضاربة والقوانين البائدة والقوانين المتعسفة والقوانين المعرقلة والقوانين المرهبة والقوانين المانعة... فهل يمكن تشغيل محرك سيارة يعمل بالبنزين بحشو خزان الوقود بالتبن أو الصفصفة؟

كل ذلك يجعلنا نفكّر في صدقية نقطة الانطلاق ومدى قدرتها على ايصالنا إلى نقطة الهدف كما يلقي كل ذلك ظلال شك على قدرة الوسائل الحالية للهبوط بنا على سطح القمر. فالجمال لا تطير ولكي نصل إلى القمر لابد أن نعبر الفضاء ولا يمكن الوصول إلى السماء عبر الحفر في أعماق الارض. وكلما استمر الحفر كلما ازداد عمق الحفرة وصعب الخروج منها.

حان الوقت لاعادة النظر في فرضياتنا ووسائلنا لتكون متناسبة مع واقعنا وأهدافنا.

فالوقت هو الحياة.